العلاقة بين أسعار النفط والدولار شائكة للغاية. ففي الوقت الذي يؤدي فيه انخفاض الدولار إلى رفع أسعار النفط، يسهم ارتفاع أسعار النفط في خفض الدولار بسبب ارتفاع فاتورة واردات النفط الأمريكية وزيادة العجز في ميزان المدفوعات فى التقرير التالى نرصد مسارات هذه العلاقة وفق المستجدات الأخيرة
النفط والدولار
يعد الارتباط بين النفط والدولار من المسلمات في الاقتصاد العالمي ونجد أن أكثر من 50% من صادرات العالم يتم دفع قيمتها بالدولار بما فيها البترول، إذ تسعر كافة دول منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) نفطها بالدولار الأميركي. وفي الجملة يصل حجم التداول بالدولار حول العالم حوالي ثلاثة ترليونات، وبهذا ينعكس أي تذبذب واضطراب في سعر الدولار على أسعار هذه السلع والخدمات، كما يؤثر على تقييم العملات الأخرى مقابل الدولار.
خضعت العلاقة السببية بين سعر صرف الدولار وأسعار النفط الخام للعديد من الدراسات الاقتصادية التي توصلت إلي نتائج غير حاسمة. وقد قاد الجدل الواسع في تحديد طبيعة العلاقة بين الدولار وأسعار النفط واتجاهها إلي أربعة وجهات نظر:
وجهة النظر الأولى: علاقة سببية أحادية الاتجاه من سعر صرف الدولار إلي أسعار النفط الخام من خلال الآثار المباشرة وغير المباشرة لانخفاض الدولار التي تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط الخام.
وجهة النظر الثانية: ترى ارتفاع أسعار النفط الخام تسبب خفض الدولار بسبب زيادة العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي والعكس صحيح. اى سببية معكوسة.
وجهة النظر الثالثة: فقد توصلت إلي وجود علاقة سببية متبادلة بين أسعار النفط وسعر صرف الدولار. إذ يجمع الرأي وجهتي النظر السابقتين.
وجهة النظر الرابعة: وتشير إلي كلاً من سعر صرف الدولار وأسعار النفط تتحكم بها عوامل متباينة, فالأول يتحدد بما تطرحه نظريات سعر الصرف, والثاني تتحكم به الطبيعة الخاصة للسوق النفطية وهما نتاج لهيمنة الاقتصاد الأمريكي بحيث لا توجد علاقة بينهما. إن العلاقة بين أسعار النفط والدولار شائكة للغاية, ففي الوقت الذي يؤدي فيه انخفاض الدولار إلي رفع أسعار النفط, يسهم ارتفاع أسعار النفط في خفض الدولار بسبب فاتورة واردات النفط الأمريكية وزيادة العجز في ميزان المدفوعات, والعكس صحيح . ويعد الارتباط بين النفط والدولار من المسلمات في الاقتصاد العالمي, وقد ساعد ما يعرف (بالبترودولار) والعائدات المتحققة من أسعار النفط العالية على التعاطي مع حالات العجز التجارية الكبيرة التي أصابت اقتصادها وذلك عبر تدوير الرساميل المتحققة من الصادرات النفطية للدول النامية وتوظيفها في استثمارات جديدة.
وحتى نفهم طبيعة العلاقة بين أسعار العملات وبالأخص أسعار الدولار وسعر النفط, قد يكون من المفيد تذكر حقيقة وهي أن النفط يتم تسعيره وبيعه وشراؤه بالدولار الأمريكي, كل النفط في العالم الآن يتم تسعيره بالدولار رغم أن بعض الدول تشترط أن تسلم العائدات باليورو, وتسلم العائدات باليورو ليس معناه أبداً تسعير النفط باليورو, ولا يوجد نفط في العالم الآن يسعر باليورو, اغلب البلدان تسلم عائدات النفط بالدولار الأمريكي. وفي السياق نفسه فان العلاقة بين أسعار النفط الخام وسعر صرف الدولار هي علاقة عكسية بالدرجة الأولى, وعلاقة طردية في بعض الاستثناءات
العلاقة الطردية
يمكننا التسليم مطلقاً بالعلاقة العكسية بين أسعار النفط وسعر صرف الدولار, فقد تحدث استثناءات يتوافق فيها انخفاض الدولار مع انخفاض أسعار النفط, كما أن ارتفاع الدولار قد يساهم في رفع أسعار النفط, ويحدث هذا عادة عند تضافر مجموعة من العوامل تؤثر في آلية العلاقة العكسية بين سعر صرف الدولار وأسعار النفط.
العامل الأول: بعد ارتفاع أسعار النفط عام 1979 إلي 29 دولار للبرميل بسبب قيام الثورة الإيرانية لتتعدى سقف 36 دولاراً للبرميل عام 1980 نتيجة الحرب العراقية الإيرانية, تراجعت الأسعار بداية من عام1981 نتيجة مجموعة من العوامل منها: زيادة إنتاج النفط في دول أخرى خارج أوبك خاصة في دول بحر الشمال, وتراجع دور منظمة أوبك كمسيطر في السوق النفطية, وأيضاً تراجع الطلب العالمي على النفط بسبب الركود الاقتصادي, نتيجة تبني الولايات المتحدة سياسة نقدية انكماشية لمواجهة التضخم, وكذلك قيام وكالة الطاقة الدولية بالتعاون مع شركات النفط الكبرى بخلق حالة من الارتباك والفوضى في أسواق النفط. بناء على ذلك سارعت أوبك إلي خفض الإنتاج لدعم الأسعار, فاضطرت المنظمة إلي تخفيض سعر النفط ليصبح27.5 دولارا للبرميل عام 1985, ففي هذا الوقت اجتمعت الدول الصناعية الخمس في بلازا وقررت تخفيض قيمة الدولار للخروج من حالة الركود.
العامل الثاني: كما انه يتوافق ارتفاع سعر صرف الدولار مع ارتفاع أسعار النفط, وقد حدث ذلك عام 2001عندما سجل الدولار أعلى ارتفاع له مقابل عملات الدول الصناعية الكبرى, خاصة أمام اليورو, حيث لم يمنع ذلك من ارتفاع أسعار النفط بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 , نتيجة المضاربة والخوف من انقطاع الإمدادات النفطية رغم أن هذا التوافق كان لفترة قصيرة, إلا أن أسعار النفط والدولار سجلت ارتفاعاً مشتركاً.
المضاربات
يتمثل الأثر المباشر، أو القريب المدى، لا نخفاض الدولار في أسواق النفط في زيادة حدة المضاربات في عقود النفط، الأمر الذي يسهم في ارتفاع أسعار النفط. فالنفط، كغيره من المواد الأولية المسعّرة بالدولار، يصبح رخيصاً مقارنة بالاستثمارات الأخرى مقدرة بالعملات الأجنبية، لذلك يقبل عليها المستثمرون. في هذه الحالة لا يمكن لوم المضاربين على رفع سعر النفط كما يفعل بعض مسؤولي أوبك، وإنما يجب لوم الدولار المنخفض أو بالأحرى سياسات أوبك التي تتضمن تسعير النفط بالدولار. المضاربون رجال أعمال مهمتهم تحقيق الربح، وهم يفعلون ذلك كلما سنحت لهم الفرصة بناء على المعلومات المتاحة والتصريحات المختلفة، بما في ذلك تصريحات مسؤولي أوبك. إذا صرح مسؤول في أوبك في الأجواء الحالية بأن أوبك لن تزيد الإنتاج، ماذا سيفعل المضاربون؟ من هو المسؤول عن رفع الأسعارفي هذه الحالة؟ وإذا صرح مسؤول بأن أوبك ستزيد الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، ماذا سيفعل المضاربون؟ من المسؤول عن انخفاض الأسعار في هذه الحالة؟
أساسيات السوق
يتمثل الأثر غير المباشر، أو البعيد المدى، لانخفاض الدولار في أسواق النفط العالمية في تغيير أساسيات السوق عن طريق تأثيره في العرض والطلب على النفط. فمن نتائج انخفاض الدولار على المدى الطويل انخفاض الطاقة الإنتاجية، أو عدم نموها بشكل يتناسب مع الزيادة في الأسعار بسبب انخفاض القوة الشرائية للدول المصدرة، والتي لن تمكنها من توفير الأموال اللازمة لزيادة الطاقة الإنتاجية. هذا يعني انخفاض المعروض مقارنة بالطلب، وبالتالي ارتفاع أسعار النفط. الأمر نفسه ينطبق على شركات النفط العالمية اللي تتسلم عوائدها بالدولار، ولكنها تدفع تكاليفها بعملات مختلفة. فشركات النفط في بحر الشمال مثلاُ تدفع أجور عمالها باليورو في الوقت الذي تتسلم فيه عائداتها بالدولار. هذا يعني ارتفاع التكاليف مقارنة بالعائدات، الأمر الذي يمنعها من زيادة الاستثمار في طاقة إضافية، رغم ارتفاع أسعار النفط. هذا أيضاً يخفض المعروض، ويرفع أسعار النفط.
في الوقت نفسه يؤدي انخفاض الدولار إلى زيادة الطلب على النفط ويقصر أثر ارتفاع أسعار النفط في الولايات المتحدة والدول التي تثبت أسعار عملاتها بالدولار. ينتج عن انخفاض الدولار انخفاض أسعار النفط نسبياً في الدول الأوروبية والآسيوية. إن لم يشجع هذا الانخفاض على زيادة نمو الطلب في النفط فإنه على الأقل سيمنع أسعار النفط المرتفعة من التأثير بشكل ملحوظ على الطلب على النفط في هذه الدول. هذا أحد التفسيرات لا ستمرار الطلب على النفط في النمو في الوقت اللذي استمرت فيه أسعار النفط في الارتفاع. لكن حتى الطلب في الولايات المتحدة لم يتأثر لأسباب عدة أهمها أن انخفاض الدولار منع مئات الأولوف من الأمريكيين من قضاء إجازاتهم السنوية في أوروبا، الأمر الذي جعلهم يقضونها في الولايات المتحدة والسفر داخلها. نتج عن ذلك زيادة في الطلب على البنزين، والطاقة بشكل عام. إضافة إلى ذلك فإن أسعار الفائدة المنخفضة وارتفاع الإنفاق الحكومي والإعفاءات الضريبية جعلت النمو الاقتصادي الناتج عنها أكبر بكثير من الأثر السلبي لارتفاع أسعار النفط في النمو الاقتصادي الأمريكي.
أسعار الفائدة
لاتؤثر قوة الدولار فقط على النفط حيث ينشغل العالم بتحركات سعر الفائدة على الدولار- عملة الاحتياطي الدولية – كونها تؤثر على العائد على كل الأسواق والاستثمارات والأصول الأخرى، وعلى كل اقتصادات العالم بلا استثناء، لا سيما الدول ذات العملات المرتبطة بسعر صرف الدولار.
وتؤثر أسعار الفائدة الأمريكية أيضا على اقتصادات العالم بسبب الارتباط الضخم بين العالم والولايات المتحدة. هذا الترابط يزيد بصورة كبيرة في حالة الدول التي اختارت ربط عملاتها بسعر صرف الدولار. وهناك 13 دولة حول العالم تربط عملاتها بالدولار (5 منها في الخليج العربي هي السعودية والإمارات والبحرين وعمان وقطر).هذا الربط يعني أن السياسات النقدية لهذه الدول مرتبطة بقرارات المركزي الأمريكي- يعني رفع الفائدة 100 نقطة أساس في أمريكا يستلزم رفع الفائدة بنفس النسبة في السعودية أو الإمارات أو أي دولة مرتبطة بالدولار.
وحين يقرر المركزي الأمريكي تحريك سعر الفائدة، لا ينشغل عادة بأثر ذلك على اقتصادات الدول الأخرى، وخصوصا تلك المرتبطة بالدولار.وإذا قرر الاحتياطي الفيدرالي رفع الفائدة في أمريكا. سوف ترتفع تكاليف التمويل في دول الخليج بالكامل (باستثناء الكويت التي ترتبط بسلة عملات) على كل الآجال – القصيرة والمتوسطة والطويلة. وسوف تزيد تكلفة تمويل الأنشطة التجارية وتكاليف القروض الشخصية مثل قروض التعليم وقروض شراء السلع المعمرة مثل السيارات، ما يعني ارتفاع تكاليف التمويل على الشركات وتقلص حركة الشراء بسبب الغلاء على الأفراد والأسر.
وتؤثر أسعار الفائدة طويلة الأجل في سعر الفائدة على قروض شراء العقارات، مما يؤدي إلى تراجع قدرة العائلات على شراء العقار. وقد يؤدي التخلي التدريجي عن التيسير الكمي إلى خفض السيولة في أسواق المال الخليجية والضغط على أسعار الأسهم والاستثمارات الأخرى.
هذه البيئة غير الميسرة للإقراض هي آخر ما تحتاجه دول الخليج ولا سيما السعودية – التي تعاني أصلا من أضرار بالغة في إيراداتها بسبب خسران النفط نحو 60 في المئة من سعره منذ منتصف 2014.
العلاقة بين الدولار وأسعار السلع
- سعر الذهب مثلا ينخفض مع رفع الفائدة الأميركية (ترابط عكسي بين الذهب والدولار). لأن الاحتفاظ بمدخرات ذهبية لا يحقق العائد الأمثل في وجود فائدة مرتفعة على الاستثمارات الدولارية. كما أن ارتفاع قيمة الدولار يجعل شراء الذهب الجديد (المقوم بالدولار) أعلى تكلفة على حائزي العملات الأخرى بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار أمام العملات الأجنبية.
- وتتأثر أسواق الأسهم بشدة برفع الفائدة على الدولار. فمنذ الأزمة المالية العالمية، طالما استفاد المستثمرون في الأسهم من الفائدة القريبة من الصفر في تدبير النقد اللازم لشراء الأسهم. فإن تغير هذا الوضع وارتفعت تكلفة الاقتراض، يصبح الاستثمار في الأسهم أعلى تكلفة، والعائد المطلوب أكبر. وبالتالي يحجم البعض عن شراء الأسهم وينخفض الطلب ومعه ربما القيم السوقية.
- بالنسبة لأسواق السندات أيضا، تؤدي زيادة الفائدة الأمريكية إلى ارتفاع العائد على السندات. لأن المستثمر يصبح أمامه فرصة بديلة للاستثمار في الدولار والحصول على عائد مرتفع.
أضف تعليق