احتلت إيطاليا صدارة المشهد الاقتصادي, مجدداً, وذلك على خلفية العجز في الميزانية والذي قد يفضي إلى هزة عميقة وارتفاع تكلفة الإقراض ومن ثم نشوب أزمة مالية بالاتحاد الأوروبي .
خطط الميزانية التوسعية لإيطاليا أشعلت نيران الغضب داخل منطقة اليورو ، حيث يزعم الأخير أنها ستؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الإيطالي لضخامة الديون المترتبة عليه والبالغة 2.8 تريليون يورو، الأمر الذي سيؤدي إلى اندلاع أزمة جديدة في أوروبا.
مقترحات إيطاليا الجديدة لعام 2019 تتجاهل الالتزامات السابقة لصالح توسيع نطاق الرفاهية وخفض الضرائب، بهدف تعزيز النمو والإنتاجية والتوظيف وبالتالي تجاوزت نسبة العجز المطلوبة ومن المفترض أن يتبع أعضاء الاتحاد الأوروبي قواعد ميزانية الاتحاد التي تحد من الديون الحكومية وتحدد نسبة معينة للعجز من الناتج المحلي الإجمالي، وفي الوقت الحالي، ترتفع تكاليف الاقتراض الحكومية وتتضاعف تقريباً عائدات السندات الحكومية منذ مايو إلى أعلى مستوى لها في أربع سنوات، ما يعني أن المستثمرين يرون إيطاليا على أنها رهان محفوف بالمخاطر بشكل متزايد، فلا تزال منطقة اليورو تتعافى من أزمة الديون التي بدأت في اليونان في عام 2010.
وتمثل إيطاليا 11% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، أي ما يعادل 10 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لليونان، ولديها القدرة على خلق المزيد من الضرر للاتحاد.لذلك في حال حدوث أي أزمة أو تهديد لمنطقة اليورو، فسيكون من الصعب جدا إنقاذ ايطاليا، فهي ثالث أكبر اقتصاد في المنطقة، ولا توجد أموال كافية لإنقاذها، فقد استنفد المركزيالأوروبي كامل قوته في محاربة الأزمة الأخيرة، ولم يتبق سوى عدد قليل من الأدوات لتوفير الائتمان الرخيص أو شراء السندات المتعثرة خلت إيطاليا ثالث أكبر دولة في منطقة اليورو في أزمة اقتصادية عميقة، بحيث باتت مصدر قلق للاتحاد الأوروبي وكذلك بالنسبة للأسواق العالمية. خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن النظام المصرفي الإيطالي ضعيف، ونسبة القروض المتعثرة، رغم تراجعها من 15.2 في المائة الربع الثاني في العام الماضي إلى 11.4 في المائة من الربع الثاني هذا العام، إلا أنها تعد مرتفعة، وقد أسفر ذلك عن تصفية عدد من المصارف الإيطالية.كما بلغت الديون السيئة الإيطالية نحو 400 مليار دولار، أي نحو خمس القروض التي منحتها المصارف العاملة
ففي نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي، أعلن الائتلاف الحاكم في إيطاليا عن ميزانية عام 2019، وكان ذلك بداية القلق الأوروبي والعالمي، حيث إنه في الميزانية الجديدة يزيد عجز الإنفاق بنحو 2.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وظلت إيطاليا ولسنوات عديدة دولة إشكالية، فهي تدخل ضمن فئة البلدان ذات الديون الكبرى، حيث يقدر الدين العام الإيطالي بـ 2.8 تريليون دولار، ومعدلات البطالة لديها مرتفعة، إذ بلغت 9.7 في المائة في آب (أغسطس) الماضي، وبين الشباب ترتفع تلك النسبة إلى 31 في المائة.كما أن 6.5 مليون إيطالي أي 11 في المائة من مجموع السكان يعيشون تحت خط الفقر، والناتج المحلي الإجمالي يبلغ 1.85 تريليون دولار، وبذلك يقف عند مستوى أدنى مما كان عليه في عام 2005.
وكشفت الانتخابات العامة في إيطاليا عن عدم قناعة شعبية عميقة بالدور الذي تلعبه إيطاليا في الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو. ومع هذا، لا تبدو الحكومة الإيطالية في حالة من القلق أو الفزع بشأن انهيار اقتصادي ممكن أو قريب. ربما يساعدها في ذلك الدعم الشعبي الذي تحظى به حتى الآن. لكن هذا المشهد قد يتغير إلى ما لا تحمد عقباه إذا أظهر المستثمرون سلوكا يعرب عن فقدان الثقة بالاقتصاد الإيطالي نتيجة تفاقم أزمة المديونية. فمع تفاقم تلك الأزمة ستصبح المصارف أكثر حذرا بشأن الإقراض، وسيتعين على المستهلكين والشركات دفع فائدة أعلى للاقتراض، وقد لا تتمكن بعض الشركات من الحصول على الائتمان المطلوب لتسيير أعمالها، وبالطبع مع تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، تنخفض قدرة الدولة على جباية الضرائب ويتدهور الوضع المالي للحكومة بشكل أكبر
خطورة المشكلة الإيطالية لا تكمن فقط في حجمها أو أسبابها، إنما أيضا في توقيتها، ففي الظروف العادية كان يمكن لتحالف اقتصادي وتكاتف دولي أن ينقذ إيطاليا ومصارفها من أي عثرة تتعرض لها، لكن في ظل صراع تجاري متفاقم بين بكين وواشنطن، وزيادة متواصلة في أسعار الفائدة الأمريكية، ودولار متصاعد القوة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإنه لا يمكن وصف توقيت الأزمة الإيطالية بأكثر من أنه أسوأ وقت يمكن أن تحدث فيه أزمة اقتصادية.
التصادم واقع لا محالة بين الحكومة الإيطالية والاتحاد الأوروبي، حيث إنه يوم الخميس الماضي باعت الحكومة سندات بعائد مقداره 2.51 في المائة، وهو أعلى معدل للاقتراض في أكثر من خمس سنوات، وسمح ذلك للخزينة العامة بجمع 6.5 مليار يورو، والميزانية الإيطالية ستؤدي إلى ارتفاع العجز المالي بمقدار 22 مليار يورو العام المقبل.فكل تلك العوامل تضع النظام الاقتصادي، خاصة النظام المصرفي، على حافة الهاوية، وتعرض المصارف الإيطالية لمزيد من الضغوط، وهو ما قد يتطلب من السياسيين قبل الاقتصاديين سرعة التدخل لخفض حدة التوتر مع الاتحاد الأوروبي من جانب، لكن الأهم اتخاذ خطوات عملية لإصلاح النظام المصرفي، خاصة مع زيادة تكلفة تمويل تلك المصارف نتيجة ارتفاع عائدات السندات الحكومية.
وتوقع مصرفان كبيران على الأقل أن تقوم وكالات التصنيف بتخفيض التصنيف الائتماني السيادي لإيطاليا إلى مستوى واحد فقط والذي يقع حاليًا عند BBB. وستقرر ستاندرد آند بورز يوم الجمعة 26 أكتوبر وضعها الأئتماني في حين قالت وكالة موديز إنها ستختتم مراجعتها قبل نهاية الشهر.
وقال جون ديفيز استراتيجي بنك ستاندرد تشارترد يوم الجمعة، إن بنكه يتوقع أن يشهد خفض تصنيف من الدرجة الأولى، وهذا من شأنه أن يأخذ إيطاليا إلى مستوى واحد فقط فوق التصنيف «غير المرغوب فيه»، الذي سيؤدي إلى البيع القسري للأصول الإيطالية.
كما أن تخفيض التصنيف الائتماني يعني بالضرورة أن المحللين يقولون للعملاء إنه أصبح أكثر مخاطرة بإقراض الأموال إلى تلك الحكومة بالذات، وغالبا ما يؤدي ذلك إلى عمليات بيع في أسواق السندات، وقال ديفيز في اتصال هاتفي يوم الجمعة: «وكالة التصنيف التي تسببت في ضغوط من السوق ستجبر إيطاليا على التراجع».وأضاف الخبير الاستراتيجي، أنه في حالة وصول إيطاليا في النهاية إلى هذا فقد يتراجع العائد الإيطالي، لكنه حذر من أن السوق لن يجلب عائدات إلى المستويات التي شوهدت في شهر مايو قبل أن يبدأ الخلاف السياسي.وأضاف: «سيظل السوق ينظر إلى إيطاليا على إنها حكومة أقل قابلية للتوقع وتقليل تصنيف ائتماني في ظل تراجع عمليات التيسير الكمي للبنك المركزي الأوروبي (التخفيف الكمي)».
وفي ملاحظة يوم الجمعة، قال البنك السويسري، إن السيناريو الأساسي الذي يتبعه هو أن يصدر كل من ستاندرد آند بورز ومؤسسة موديز تصنيفًا من الدرجة الأولى، مع وضع علامة على «نظرة مستقبلية مستقرة».وقال إنه في حال تحقق مثل هذه النتيجة، فإن الفرق بين الديون الإيطالية والألمانية لمدة 10 سنوات، التي تستخدم كمقياس للقلق في مشاكل منطقة اليورو – يجب أن يتراجع من حوالي 330 نقطة أساسية إلى نطاق يتراوح بين 250 و300 نقطة.
ومع استمرار أزمة الميزانية الإيطالية، خفضت أسواق المال في منطقة اليورو توقعاتها بأن البنك المركزي الأوروبي سيرفع أسعار الفائدة في سبتمبر من العام المقبل، ويعتبر هذا الشهر هو أول موعد محتمل يقوم فيه البنك المركزي الأوروبي برفع أسعار الفائدة بعد أن صرح البنك نفسه أنه لن يكون هناك أي تغيير خلال صيف العام المقبل.
قال تقرير نشرته صحيفة فوجليو الإيطالية إن ماتيو سالفيني ولويجي دي مايو، نائبا رئيس الوزراء الإيطالي وزعيما الائتلاف الحزبي المكون للحكومة، يعتزمان التحرك خطوة إلى الخلف بخطة عجز الموازنة المستهدف، ما يُعد بادرة أمل في تفادي أزمة بين الحكومة الإيطالية الشعبوية والمفوضية الأوروبية.يأتي ذلك عقب تصريحات انطوت على تحذيرات ضمنية على لسان جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، أشار خلالها إلى أن إيطاليا استنفذت كل وسائل المرونة في القواعد المالية الأوروبية. وقال يونكر إن “إيطاليا استخدمت جميع أدوات المرونة المالية المتاحة في الاتحاد الأوروبي”، في إشارة إلى استنفاذ روما جميع الوسائل في دعم نظامها المالي.وأشار إلى أن روما أنفقت حوالي 30 مليار يورو خارج إطار القواعد المالية المعمول بها في الاتحاد النقدي الأوروبي دون أن “تتعرض لعقوبات”.
يبدو أن كلا الجانبين في هذه الأزمة المحتملة، إيطاليا والمفوضية الأوروبية، قد بدآ في إظهار قدر أكبر من المرونة في الأيام القليلة الماضية، ما يبشر بتمرير المفوضية الأوروبية للموازنة العامة الإيطالية.
أضف تعليق