رغم غيابه إلا أنه سيظل حاضراً بإرث عظيم من الإنجازات فجهوده فى المحافل الدولية ستظل شاهداً على عبقرية الرجل وحنكته السياسية فلم يكن “سعود الفيصل” شخصاً اعتيادياً تطوى الأيام صفحته وتمضى…
نعت السعودية، الخميس، وزير خارجيتها الأسبق الأمير سعود الفيصل رجل السياسية والإنسانية، الذي توفي في ولاية لوس أنجلوس الأميركية. وذلك بعد75 عاماً، قضى منها 40 عاماً كوزير للخارجية، وقرابة الـ15 عاماً للتحصيل العلمي.
غاب سعود الفيصل الذي عمل وزيراً للخارجية في عهد أربعة ملوك، بدءاً بالملك خالد بن عبدالعزيز، وأخيراً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي وافق على طلب الإعفاء المقدم من الفيصل نفسه، وكانت عبارة الفيصل الأخيرة والأبرز آنذاك “سوف أظل الخادم الأمين” رغم مغادرته منصبه،
ويصادف يوم رحيله الذكرى السنوية للإعلان الشهير الذي اتخذه والده الراحل، الملك فيصل بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية آنذاك، بـ “حظر” الصادرات النفطية إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهو القرار الذي تضامن معه عدد من الدول العربية، نظير الدعم الأميركي لإسرائيل إبان حرب أكتوبر.
مواقف خالدة
وتتعدد المواقف في حياة “الفيصل” الدالة على حزمه في التعامل مع الملفات الهامة والحساسة، منها قيامه في مايو من عام 1985 بزيارة طهران في زيارة رسمية هدفت للتركيز على مسألة الحجاج الإيرانيين، وكذلك مطالبته كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، لدى شغلها المنصب بين عامي 2005 و2009، بالتركيز على قضايا أساسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ومن بين المواقف التي تتسم بالصرامة كان استياؤه لعمليات التدقيق المالي التي تعرضت لها السفارة السعودية في واشنطن، واعتبر أن سلوكيات المدققين “غير ملائمة وعدائية”، معلنًا أن السفارة السعودية تتمتع بالحماية الدبلوماسية.
وفي عام 2004، أكد “الفيصل”، أن المصدر الأساسي للمشكلات في الشرق الأوسط ليس المسلمين وإنما “انعدام العدالة” في المنطقة، قبل أن يدفع في مارس 2012 باتجاه تسليح المعارضة السورية، معتبرًا أن الواجب يقضي بدعمهم من أجل الدفاع عن أنفسهم ضد العنف الدموي اليومي الذي تمارسه القوات السورية المسلحة، كما أنه كان يشجع العراقيين على الدفاع عن سيادة بلدهم.
ودعا “الفيصل” الائتلاف الدولي الذي ينفذ ضربات جوية ضد مواقع تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا والعراق إلى مواجهة هذا التنظيم على الأرض، محذرًا من تنامي دور إيران في العراق، متهمًا طهران بفرض سيطرتها عليه عن طريق مساعدته في الحرب ضد التنظيم المتشدد.
وتميز وزير الخارجية السابق بالوقوف الحاسم ضد الاتحاد السوفيتي السابق، وميوله العربية القومية، وكان يوصف بأنه كان يعارض أكثر من غيره أية مقترحات إسرائيلية، كما نجح في قيادة الجهود السعودية لإعادة تحسين صورتها الدولية بعد هجمات 11 سبتمبر في كل من نيويورك وواشنطن.
ولعل من أحدث مواقف “الفيصل” رده على رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى القمة العربية الأخيرة في شرم الشيخ، مبديًا تحفظه على الرسالة، مشيرًا إلى أن روسيا جزء من مآسي الشعب السوري عبر دعمها للرئيس بشار الأسد، كما لا ينسى الجميع كلمته لدى انطلاق “عاصفة الحزم” حين قال: “نحن لسنا دعاة حرب، ولكن إذا قُرعت طبولها فنحن جاهزون لها”.
حرب لبنان
عين الأمير سعود وزيرا للخارجية في أكتوبر 1975 بعد سبعة أشهر من اغتيال والده الملك فيصل، ولعب بعد ذلك دورا كبيرا في الجهود التي أفضت إلى وضع حد للحرب اللبنانية (1975-1990) خصوصا مع التوصل إلى اتفاق الطائف في 1989.
وقاد سياسة السعودية الخارجية إبان الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) ومع الغزو العراقي للكويت في 1990 وخلال حرب الخليج التي تبعته (1991) وصولا إلى تحرير الكويت من قبل تحالف دولي قادته الولايات المتحدة انطلاقا من المملكة.
وقد دفع الاقتتال الطائفي في العراق في أعقاب الاجتياح الأمريكي لهذا البلد في 2003، والذي لم تسمح خلاله السعودية للأمريكيين باستخدام أراضيها، إلى توجيه انتقادات علنية لسياسة إدارة الرئيس جورج بوش في المنطقة. والأمير الذي كان يجري زيارات كثيرة إلى واشنطن ويستقبل المسؤولين الأمريكيين في الرياض، كان أيضا يتمتع بعلاقات متينة مع قادة أوروبيين.
مبادرة السلام العربية
وساهم الأمير سعود في إعادة إطلاق مبادرة السلام العربية عام 2007 بعد خمس سنوات على إطلاقها في القمة العربية في بيروت.لكنه كان يميل إلى سياسة الحذر إزاء إسرائيل فهو يعتبر أن أي علاقة معها يجب أن تكون مرتبطة بحل النزاعات بين الدولة العبرية وبين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وذلك على أساس انسحاب كامل من الأراضي المحتلة.
والأمير سعود الذي غالبا ما يرتدي الثياب الرسمية الغربية بدل الثياب السعودية التقليدية عندما يكون خارج الدول العربية، وجد نفسه مؤخرا في موقع مواجهة محتدمة مع إيران التي تتقارب مع الولايات المتحدة وتوسع نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
الأمير سعود الفيصل اشتهر بتصريحاته القوية ولعل أشهرها أيام حربي الخليج الأولى والثانية ، حيث كان الفيصل يطل أسبوعياً في مؤتمر صحافي أيام حرب الخليج الأولى وقاد حملة دبلوماسية وإعلامية موازية للحملة العسكرية التي انتهت بتحرير الكويت وطرد صدام حسين منها ، وفي هذه المؤتمرات تجلى دهاء الفيصل السياسي وحنكته في التعامل مع الإعلام والإعلاميين وهي صفة ظلت ملازمة له طوال مسيرته .
وإذا كان الفيصل فارس المؤتمرات والتصريحات فإنه أيضاً فارس الأفعال والمواقف ، حيث لايزال الكثيرون يذكرون خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ومواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية والرافضة للعدوان الإسرائيلي وأيضاً دعمه للثورة السورية وغيرها من القضايا العادلة.
السياسة الدولية
مؤلفات السياسين ومذكرات زعماء العالم مليئة بالقصص والمواقف التي تثبت ما قدمه الرجل والمكانة التي بلغها على الصعيد الدولي وغني عن الذكر القول بأن الفيصل هو عميد وزراء الخارجية في العالم وأكثرهم خبرة وحنكة وتجربة ، ولذلك فإنه يحظی بإعجاب الخصوم قبل المحبين في ظاهرة نادرة الحدوث علی مسرح السياسة الدولية .
منذ تولي الأمير سعود الفيصل وزارة الخارجية عمل تحت قيادة أربعة ملوك هم الملك خالد بن عبدالعزيز والملك فهد بن عبدالعزيز والملك عبدالله بن عبدالعزيز والملك سلمان بن عبدالعزيز ، بالإضافة لملازمته لوالده الملك فيصل ، إلا أن الفترة العظمى من عمله ارتبطت بعهدي الملكين الراحلين فهد وعبدالله ، الأخير الذي كان يحتفظ له الأمير سعود بمشاعر تقدير خاصة تجلت في خطابه الأخير أمام مجلس الشورى الذي ذرف فيه الدموع وهو ينعى الملك الراحل حيث لم يتمكن من حضور مراسم تشييعه نظراً لظروفه الصحية.
بل إن الملك الراحل بنفسه كان من أشد المحبين للأمير سعود وتجلى ذلك في زيارته للأمير عام 2013م بعد إجراء الفيصل عملية جراحية رغم ما كان يعانيه الملك عبدالله – آنذاك- من ظروف صحية وتقدم في العمر .
السيرة الذاتية
الراحل سعود الفيصل نال درجة البكالوريوس في قسم الاقتصاد من جامعة برنستون في ولاية نيوجيرسي الأميركية العام 1963، وبدأ حياته العملية مستشاراً اقتصادياً في وزارة البترول والثروة المعدنية، قبل أن ينتقل بعدها إلى المؤسسة العامة للبترول والمعادن “بترومين”، وأصبح مسؤولاً عن مكتب العلاقات البترولية، الذي يشرف على تنسيق العلاقة بين الوزارة و”بترومين”. وفي العام 1970، عين الأمير سعود الفيصل نائباً لمحافظ “بترومين” لشؤون التخطيط، قبل أن يعين لاحقاً وكيلاً لوزارة البترول والثروة المعدنية في العام 1971، ليصدر لاحقاً مرسوم ملكي بتسميته وزيراً للخارجية، إبان شغور المنصب بوفاة والده الملك فيصل بن عبدالعزيز، الذي كان وزيراً للخارجية إضافة لكونه ملكاً للبلاد.
يُعرف عن سعود الفيصل بساطته وانصرافه الدائم لأعماله في وزارة الخارجية حيث عرف عنه الجدية في العمل والإتقان ، وعلى الصعيد الشخصي والمظهر الشكلي فإن الأمير الفيصل يظهر بالزي الرسمي السعودي في أغلب الأحيان – حاله في ذلك حال كل المسؤولين الرسميين السعوديين – إلا أن هناك ملاحظة حول تفضيل الأمير سعود ارتداء الشماغ الأحمر دون الفترة البيضاء وهو ما لفت نظر الكثير من السياسيين الذي قابلوه خصوصا الأوربيين والأمريكيين ومنهم المستشار الألماني هيلموث كول الذي سأل مرةً الوزير الراحل غازي القصيبي : لماذا الملك وكل الأمراء يرتدون الغترة البيضاء باستثناء سعود الفيصل، وهل هذا يدل على مكانة الشخص؟وحينها شرح القصيبي للمستشار أن الأمر يتعلق بالذوق الشخصي ولا علاقة له من قريب أو بعيد بموضوع المكانة !
ومن أبرز ما وصف به الأمير الراحل سعود الفيصل هو ما ذكره الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى حين قال: “هو مدرسة الدبلوماسية العاقلة والآراء الرصينة القوية، كان قوياً حين يحتاج الموقف إلى قوة، وإنساناً حين يحتاج الموقف إلى إنسان، ودبلوماسياً حين يحتاج الموقف إلى دبلوماسي، وخبيراً حين يحتاج الأمر إلى رأي خبير”.
أضف تعليق