في وقت تتسابق فيه دول العالم لتبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي لتأمين موقعها في الثورة الرقمية المقبلة، حذّر عدد من كبار المسؤولين الاقتصاديين من تداعيات غير محسوبة قد تُفضي إلى أزمة اجتماعية واقتصادية عالمية، في حال غابت سياسات التوازن والعدالة الرقمية.
جاء ذلك خلال الجلسة النقاشية المعنونة “تعزيز نمو الإنتاجية في العصر الرقمي” ضمن الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين لعام 2025 في واشنطن، والتي جمعت نخبة من القادة الاقتصاديين والتكنولوجيين، من أبرزهم كريستالينا غورغييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، ومحمد الجدعان، وزير المالية السعودي ورئيس اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية التابعة للصندوق، إلى جانب روث بورات، الرئيس التنفيذي للاستثمار في شركتي ألفابت وجوجل، ورجل الأعمال النيجيري توني إلوميلو، وسيمون جونسون أستاذ الإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT).
الجدعان: الذكاء الاصطناعي يخلق فجوة متنامية داخل الدول وبينها
أبدى وزير المالية السعودي محمد الجدعان تفاؤلاً حذراً إزاء التوسع المتسارع في استخدام الذكاء الاصطناعي عالميًا، محذرًا من أن هذه الطفرة التقنية قد تُعمّق فجوة حقيقية بين البلدان المتقدمة والنامية، بل وداخل كل دولة بين فئات المجتمع المختلفة.
وقال الجدعان إن “الأشخاص سيشعرون بأنهم متخلفون عن الركب، لذا على الحكومات أن تعمل على إعادة تأهيل المهارات البشرية لمواكبة التحول التكنولوجي، لأن الوظائف لن تبقى على حالها”.
وأشار إلى أن الحكومات مطالبة باتخاذ سياسات مالية رشيدة في توجيه الاستثمارات العامة نحو التكنولوجيا، مع إخضاع الشركات التقنية الكبرى للمساءلة حول الحوافز التي تحصل عليها من أموال دافعي الضرائب، مؤكداً أن “الذكاء الاصطناعي فرصة، لكنه أيضاً مسؤولية اقتصادية واجتماعية”.
وأضاف الجدعان أن التعليم هو خط الدفاع الأول في مواجهة التحولات التقنية، مشدداً على ضرورة إعداد الأجيال لتكون أكثر قدرة على “التعلم المستمر” بدلاً من الاكتفاء بالمناهج التقليدية.
غورغييفا: 60% من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة مهددة
من جانبها، اتفقت كريستالينا غورغييفا مع الجدعان في تشخيصها للمشهد، محذرةً من أن العالم مقبل على “تسونامي تغيّر هيكلي في سوق العمل” بسبب الذكاء الاصطناعي.
وقالت: “التقديرات تشير إلى أن 60% من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة ستتأثر بالذكاء الاصطناعي خلال السنوات المقبلة، مقابل 40% في الاقتصادات الناشئة. سنشهد تحسناً في الإنتاجية، لكنه سيقابله اضطراب كبير في هيكل التوظيف”.
وأضافت غورغييفا: “السؤال ليس إن كنا جاهزين تقنياً، بل إن كنا جاهزين اجتماعياً واقتصادياً لتداعيات هذه الموجة”.
مؤشر الجهوزية للذكاء الاصطناعي: الأغنياء أولاً
كشفت مديرة صندوق النقد الدولي عن إصدار مؤشر لقياس مدى جاهزية الدول لتبنّي الذكاء الاصطناعي، يعتمد على أربعة معايير رئيسية:
البنية التحتية الرقمية،
المهارات في سوق العمل،
مستوى الابتكار داخل الاقتصاد،
الإطار التنظيمي والتشريعي.
وأوضحت أن الاقتصادات المتقدمة والغنية بالطاقة تصدرت المؤشر، بينما جاءت الدول ذات الدخل المنخفض في ذيل الترتيب، معتبرةً أن “العالم يتجه إلى مزيد من التفاوت الرقمي”.
وأكدت أن “الأولوية القصوى أمام الاقتصادات النامية هي بناء بنية تحتية رقمية قوية وتوفير الكهرباء والاتصال، لأن نصف سكان إفريقيا ما زالوا محرومين من الكهرباء، وهذا يجعل الحديث عن الذكاء الاصطناعي في تلك المناطق شبه نظري”.
النهج السعودي: انتقائية لا انبهار
وفي سياق متصل، استعرض الجدعان في مداخلة أخرى التجربة السعودية في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، قائلاً:
“نحن لا نساير الضجيج الإعلامي، بل نركّز على القطاعات التي نملك فيها ميزة تنافسية ضمن سلسلة قيمة الذكاء الاصطناعي. من الخطير أن تحاول الدول أن تفعل كل شيء دفعة واحدة”.
وأوضح أن السعودية تعمل على استراتيجية انتقائية ذكية تركز على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في القطاعين المالي والطبي والبنية التحتية الذكية، في إطار “رؤية السعودية 2030” التي جعلت التحول الرقمي أحد ركائزها الرئيسية.
عالم جديد على حافة التحوّل
وبينما تتسابق الحكومات لاقتناص فرص الثورة الصناعية الرابعة، يبدو أن التحذيرات من فجوة الذكاء الاصطناعي تزداد يوماً بعد يوم.
ففي الوقت الذي يتطلع فيه العالم إلى مكاسب اقتصادية من التقنية الجديدة، يزداد القلق من اتساع الفوارق بين الدول، وتهديد الملايين من الوظائف التقليدية بالاندثار.
وبين التفاؤل الحذر والقلق المشروع، يتشكل عالم جديد تحكمه الخوارزميات وتتحكم فيه المهارات، بينما يبقى التحدي الحقيقي في أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة عدالة رقمية لا رافعة جديدة للّامساواة.











